الـتـسـيـب الـوظيـفي.. لـمـاذا ؟

معهد الادارة يرصد عدم التزام نصف موظفي الاجهزة الحكومية بالدوام
الـتـسـيـب الـوظيـفي.. لـمـاذا ؟

أظهرت دراسة لمعهد الإدارة العامة ان نصف موظفي الأجهزة الحكومية (نحو 500 ألف موظف) يتأخرون عن أعمالهم ومنهم من يخرج اثناء وقت الدوام لاحضار أولاده من المدارس أو إنهاء بعض أعماله الخاصة ومنهم من يتغيب بدون عذر، ومن الموظفين من يغادر قبل نهاية الدوام. اذن نحن أمام قضية هامة تتعلق بالتسيب الوظيفي، وهي ظاهرة يؤكدها رئيس هيئة الرقابة والتحقيق محمد النافع، معترفاً بوجود تسيب وظيفي في بعض القطاعات الحكومية، وأن هناك أجهزة حكومية معروفة بزيادة نسبة التسيب فيها علماً بأنه لم يسمع عن معاقبة أي موظف بالفصل لتسيبه بسبب التسامح في تطبيق الأنظمة!!.ومن أبرز تجليات التسيب الوظيفي تأخر الموظف عن الدوام وخروجه اثناءه أو قبل انتهائه، وانشغاله طوال ساعاته بقراءة الصحف والحديث عبر الهاتف والثرثرة مع الزملاء وكذا خروجه لاحضار ابنائه من المدارس أو “تزويغه” لإنهاء بعض مصالحه وأعماله الشخصية وغيرها من السلوكيات الوظيفية التي تدخل في اطار ما يسمى بالتسيب الوظيفي وهو ما يصفه البعض أيضاً بـ “الفوضى” أحيانا وبخيانة الأمانة والاهمال أحياناً أخرى ما يؤدي في نهاية الأمر إلى إهدار ساعات العمل وتعطيل مصالح الناس وخفض الانتاجية.. فما هو حجم هذه الظاهرة؟.. وكيف ينظر إليها البعض، وطرق معالجتها وصولاً إلى معدلات عليا من انتاجية الموظف ومن الانضباط والالتزام الوظيفي.الفصل من الوظيفةان ابرز مثال صارم لما يمكن ان يؤدي اليه التسيب الوظيفي من مضار حالة شاب جامعي كان كل حلمه قبل التخرج الحصول على وظيفة يتوج بها مشوار نجاحه وامكانياته العلمية وتسد احتياجاته المادية وحينما وجد الوظيفة (المرموقة) سرعان ما تبدد حلمه في نهاية الأسبوع الأول لعمله الجديد فقد انتابته حالة من الملل والإحباط لم يعد يشعر معها بأهمية لعمله أو مغزى لطموحاته فكثرت اجازاته المرضية وطالت فترات تأخره عن الدوام وغيابه عن العمل فكانت النتيجة الطبيعية لتسيبه هذا “قرار بالفصل”.تسيب موظف مثاليوموظف مثالي كان يضرب به المثل في الهمة والنشاط والانضباط وإذا به فجأة وبدون مقدمات أصبح مهملا.. كسولاً غير قادر على ارضاء المراجعين الذين ضجوا من اسلوب التعامل معه حدث كل ذلك بسبب اصابته بعدوى “التسيب”.معلم رياضيات متسيبومعلم رياضيات في احدى المدارس لا يجد الوقت المناسب لتصحيح كراسات طلابه بسبب تسيبه وانشغاله بالتجارة والمقاولات التي أصبحت تلتهم معظم وقته فكثر غيابه ومشاويره اثناء الحصص بدون أذن رسمي فكانت النتيجة تدهور مستوى طلابه.استغلال الوظيفةاذن يدخل في اطار التسيب الوظيفي استغلال الوظيفة وساعات الدوام الرسمي في تحقيق مصالح شخصية للموظف واستغلال ممتلكات المؤسسة وتسخيرها لخدمة أغراضه الشخصية.هذه النماذج لحالات التسيب قد يسميها البعض (ظروف خاصة) وقد يطلق عليها البعض الآخر اهمالاً متعمداً أو تقصيراً أو غير ذلك من أوصاف ولكن مهما كانت التسميات والأوصاف فإن ظاهرة التسيب الوظيفي تظل بحاجة لمزيد من التحليل والتفسير لسبر أغوارها والوصول إلى كنهها.فوضى وتسيبوفي وصف الظاهرة يعقد الدكتور علي سعد آل موسى مقارنة بما يحدث في معظم مدن العالم وبين ما يحدث عندنا حيث هناك في معظم مدن العالم وقتان لذروة الازدحام المروري: في بداية ساعات الدوام ونهايته فتجد الناس يذهبون إلى أعمالهم في أوقات محددة ويلزمون مكاتبهم ولا يغادرون إلا في أوقات محددة ويتسلمون رواتبهم مقابل ادائهم لأعمالهم خلال ساعات معينة ويحاسبون على تقصيرهم ويعاقبون على عدم انضباطهم أما عندنا هنا فتجد “فوضى” وتسيباً وعدم التزام الكثير من الموظفين بالتواجد في مقر عملهم من بداية الدوام وخروجهم خلاله لإحضار أولادهم من المدارس وانهاء أعمالهم الخاصة ومغادرتهم قبل نهاية الدوام ويحدث هذا التسيب بشكل ودي مع رؤسائهم أو التنسيق مع زملائهم.الاختيار العشوائي للموظفينومن منظور الدكتور سعيد علي الغامدي استاذ علم النفس بجامعة الملك خالد ان الالتزام بالقانون والأنظمة الادارية له جذور اجتماعية وسيكولوجية محددة لا يمكن فصلها عن طبيعة العلاقات والقيم والتقاليد السائدة في المجتمع ومتى ما اقتنع أفراد المجتمع بهذه الأنظمة تصبح جزءاً من كيانهم وعاداتهم السلوكية، مشيراً إلى أن التجارب أثبتت أهمية الأختبار المهني والاختبارات النفسية في تقليل الاخطاء التي تحدث نتيجة الاختيار العشوائي حيث ذكرت احدى الشركات ان تطبيق الطرق السيكولوجية أدى إلى توفير عائد سنوي قدره 130 ألف فرنك فرنسي وفي دراسة أخرى تبين ان هناك 13 مصنعاً حقق كل منها خسارة ضخمة نتيجة لهذا الاختيار العشوائي للموظفين.وعموما يرى الدكتور سعيد الغامدي أن ظاهرة التسيب تكثر في المجتمعات الشرقية أكثر من المجتمعات الغربية نظراً لعدم وضع الموظف المناسب في المكان المناسب لامكانياته وقدراته.الاستهتار بالوظيفةوفي تفسير ظاهرة التسيب الوظيفي يعتبر محمد حبيب النجاري باحث اقتصادي عنصر العمل احد العوامل التي تدخل في دائرة العملية الانتاجية وان الدولة تحسب انتاجها في نهاية اعمالها الوظيفية من خلال تحديد عدد الموظفين وساعات العمل المطلوبة ولهذا يعتبر الاستهتار بالوظيفة مخالفة صريحة للعمل فالموظف يجب ان يلتزم بأداء عمله منعاً لحدوث التسيب الذي يؤدي إلى انخفاض ساعات العمل الواجب انجازها وبالتالي حتى لا يحدث تضخم في العمل الوظيفي وانخفاض في انتاجية العمل فعلى سبيل المثال اذا كان هناك عمل يحتاج 40 ساعة في الاسبوع لإنجازه قد يصل حجم التسيب إلى 35 ساعة أسبوعيا بمعدل ضياع 3 ساعات يومياً.تعطيل المصلحة العامةأما الدكتور غيثان علي الجرير بجامعة الملك خالد بأبها فيرى ان ظاهرة التسيب قد تفشت في عدد من الأجهزة الحكومية بل ويعاني منها الجميع كما تعترف الجهات المعنية بوجودها وعجزها عن القضاء عليها ما يؤدي بدوره إلى غياب العدالة والمساواة بين الموظفين وتعطيل المصلحة العامة وانفاق جزء كبير من رواتب الموظفين التي تزيد على عشرة مليارات ريال شهريا على غير مستحقيها من الموظفين المتسيبين.أمانة ومسؤوليةوينظر الشيخ عبدالله بن فرحان القرني قاضي محكمة العقيق للمسألة من وجهة النظر الشرعية اذ يعتبر الوظيفة أمانة، والمسلم مؤتمن على عمله محاسب عليه مشيراً إلى ما دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أبي ذر الغفاري عندما طالب بوظيفة فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر انك ضعيف وانها أمانة، وانها يوم القيامة خزي وندامة الا من اخذها بحقها وأدى الذي عليه منها.وهنا يتساءل الشيخ القرني: أين هذا التوجيه من وضع الكثيرين الذين يتسابقون إلى الوظيفة دون ان يفكروا في تبعاتها ومسؤولياتها والسؤال عنها يوم القيامة؟ بل أين هذا التوجيه عن كثير من الموظفين الذين يتهاونون فيها وفي أوقات عملهم في حين يفترض ان يقوم الموظف بواجبه خير قيام في نطاق ما حدد له من مهام ان يكون أصحاب المصالح لديه سواء المستضعفين والعجزة مع أصحاب المناصب والنفوذ بل ان من واجبه الا يجعل الوظيفة أداة استغلال ينتقم من خلالها من عدوه ويقرب فيها صديقه كما ان من أمانة الوظيفة الا يستعمل شيئاً من ممتلكات القطاع الذي يعمل فيه كالأجهزة والسيارات وغيرها في قضاء مصالحه الخاصة مما يتنافى مع مبدأ الأمانة.تطبيق اللوائح والأنظمةولمعالجة الظاهرة يؤكد عبدالله محمد عبدالعزيز مدير شؤون الموظفين بتعليم عسير ان المؤسسات العامة في المملكة تطبق نظام الخدمة المدنية والتأديب على موظفيها في حالة الاهمال وهذه الانظمة واللوائح يلتزم بها الموظف لاشتمالها على العقوبات اللازمة التي تطبق في حالة المخالفة مع متابعة الرؤساء في العمل مرجعاً أسباب التسيب الوظيفي إلى طبيعة المناخ الاداري الذي يعيش فيه الموظف والمشاكل الاجتماعية التي يمر بها مما يؤثر على عطائه الوظيفي.وامام هكذا مشكلات يقترح تصحيح بيئة العمل والنظر في بعض اللوائح التي لا تناسب بعض الموظفين في قطاعاتهم ودراسة المشكلات والظواهر الاجتماعية التي تشكل عقبة أمام استمرارية انتاجية الموظفين.استخدام التقنيةويقترح الدكتور غيثان الجريس استخدام التقنية التي لا تجامل ولا تحابي بحيث يلزم كل موظف باستخدام بطاقته الشخصية الممغنطة أو استخدام البصمة عند دخوله المبنى أو مغادرته له.مشدداً على ضرورة تطبيق النظام حتى ولو أدى ذلك للفصل وتعيين العاطلين المتلهفين للعمل بدلاً عنهم.
عبدالرحمن القرني (أبها)
صحيفة عكاظ
( الأحد 11/01/1429هـ ) 20/ يناير /2008 العدد : 2408

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بحث عن التسيب الإداري - الفصل الأول

نظرية ابراهام ماسلو في الدافعية الانسانية

ظاهرة التسيب الوظيفي